في بحثنا عن حقيقة القناصة توصلنا إلى وثيقة عسكرية سرية تروي الاحداث التي وقعت بأحد أحياء العاصمة بتاريخ 15 جانفي 2013 من زاوية نظر قائد عسكري ميداني كان شاهدا وفاعلا . وتلخص الوثيقة ما حدث بمكان محدد هو حي 5 ديسمبر, وفي فترة زمنية متقاربة تمتد من الساعة 11 صباحا من يوم السبت 15 جانفي الى الخامسة صباحا من يوم الأحد 16 جانفي. وهي الفترة التي اختبر فيها الجيش التونسي قدراته في حفظ الامن العام والسيطرة على العصاة والمتمردين.
وتتألف الوثيقة الرسمية من صفحتين صادرتين عن آمر تشكيلة عسكرية برتبة مقدم يدعى ع . م كان مكلفا بحماية وحفظ الامن بمنطقة الكرم الغربي حي 5 ديسمبر. وقد وجهت الوثيقة السرية الى النيابة العسكرية وقيادة أركان جيش البر من اجل احاطة القيادة والسلطة القضائية العسكرية علما بمجريات الوقائع . باعتبار أن التقرير العسكري يروي حيثيات التدخل الميداني لتشكيلة من قوات الجيش تتبع القطاع العسكري الثاني بالعاصمة, ويشرح فيه ملابسات الاشتباكات المسلحة من أجل فرض النظام والحفاظ على كيان الدولة خلال الازمة وأثناء حالة طوارئ لم تشهد لها البلاد التونسية مثيلا منذ الاستقلال.
وتعتبر هذه الوثيقة أحد مستندات الارشيف العسكري التي تؤكد قيام عصابات مسلحة او قناصة بالاشتباك فعليا مع التشكيلات العسكرية للجيش الوطني في الاحياء القريبة من القصر الرئاسي . وكان هروب الرئيس السابق قد فاجأ الجميع خاصة أولئك الذين عاشوا من ريع النظام المتهاوي, أو أولئك المرتزقة الذين اقتاتوا من موائد عائلة الطرابلسي أو جماعات السلب والنهب من اللصوص, كان هؤلاء معارضين حقيقيين للثورة سعوا الى ارباك السيطرة الميدانية للجيش .
عملية القبة الخضراء بالكرم :
حيث ورد بالوثيقة أن تشكيلة عسكرية تتكون من 14 عنصرا وسائق يترأسهم ضابط سام برتبة مقدم آنذاك كانت منذ تاريخ السبت 14 جانفي مكلفة بحماية منطقة الكرم الغربي بالعاصمة واقامت للغرض نقطة تفتيش ثابتة في مفترق قصر المعارض بالكرم طبقا للتعليمات الصادرة اليها من القيادة. وقد رصدت نقطة التفتيش على الساعة العاشرة ليلا من تاريخ 15 جانفي مجموعة مسلحة ترابط بالقبة الخضراء لقصر المعارض بالكرم وقد شرع المسلحون في اطلاق النار فعليا باتجاه التشكيلة العسكرية.
إلى من تنتمي هذه الجماعات المسلحة ؟ هل هي من العناصر الأمنية التي خشيت ردة فعل المواطنين بمجرد خروج "بن علي" فاختبأت هنالك ؟ أم كانوا فعليا من بين العناصر المكلفة بحماية قصر قرطاج بغرض التصدي للمتظاهرين الذين أشيع أنهم بصدد التفكير في الزحف على قصر الرئيس المخلوع ؟ هل هم من بين أعوان الرئاسة ؟ أم إنهم من عناصر جهاز أمن الدولة ؟
مثل هذه الأسئلة لا تتطلب البحث عن إجابات مقنعة لأن الأجوبة الممكنة إنما يوفرها الباحثون في التاريخ أو المحققون المختصون أو القضاء أو أجهزة المخابرات والاستعلامات. ولقد ورد بالوثيقة السرية ذاتها أن .
"حراس المعرض المتواجدين بداخله أكدوا عن طريق الهاتف الجوال بوجود أشخاص مسلحين بالقبة بمنافذ التهوئة وعددهم غير معروف. "
فلماذا يتخفى هؤلاء المسلحون عن أنظار العسكريين المرابطين قرب المعرض ؟ لماذا لم يسلموا أنفسهم للعسكر إن كانوا حقيقة من الابرياء ؟ هل ينتمون للرئاسة أم لإدارة أمن الدولة أو لإدارة أمنية أخرى أم ينتمون إلى مرتزقة الطرابلسية أم لجهات غير معروفة ؟
وقد أوردت الوثيقة السرية معلومات خطيرة عن قرار اتخذته القيادة العسكرية العليا بتدمير الهدف بعد أن رفضت تلك العناصر تسليم سلاحها للجيش وقامت بإطلاق النار باتجاه الجنود النظاميين :" فتدخلت مروحية مسلحة وقامت بالرمي على القناصة بالقبة المذكورة." وهذا ما يؤكد صحة بعض الاخبار التي روجتها قنوات فضائية وقتها عن سماع زخات رصاص كثيف وحصول اشتباكات مسلحة في أحياء قريبة من القصر الرئاسي دارت بين قوات من الجيش التونسي وبين عناصر تنتمي إلى فلول نظام "بن علي".
وقد ذكر التقرير السري أن فرقة لمكافحة الارهاب تنتمي الى الحرس الوطني أو الى جهاز الشرطة, كانت قد توجهت إلى مكان الاشتباك وقد قامت بالصولة والهجوم على هذه المجموعة من القناصة في تنسيق بين العسكر واجهزة الامن التي اصبحت تحت قيادة موحدة :" وصول فرقة مقومة الارهاب على متن مدرعتين وسيارة من النوع الكبير مجهزة بشاشات تمكن من متابعة العمليات."
وقد دامت هذه المواجهة 5 ساعات كاملة وانتهت صبيحة يوم الاحد 16 جانفي وذلك بالقضاء على عدد 8 قناصة مسلحين:" وقد رفعت فرقة مقاومة الارهاب الجثث دون افادة العنصر العسكري بالتفاصيل ". بمعنى ان هذه المواجهات قد ادت الى وقوع اصابات قاتلة ومباشرة في صفوف المسلحين في مواجهته للقوات العسكرية التي انتشرت لتفعيل قانون الطوارئ وحماية الوطن.
وتؤكد الوقائع أن هروب "بن علي" لم يعن أبدا السقوط الكامل للأجهزة الموالية والمخلصة للنظام القديم. فهل أعد "بن علي" أو "علي السرياطي" أو "بلحسن أو عماد الطرابلسي" ميليشات أو مرتزقة تأتمر بهم وتدين بالولاء لهم من أجل ضمان الاستمرار في الحكم وقمع الثورة ؟
ولسنا هنا في مقام اتهام جهات أمنية لأن أغلبها إنما كان يعمل تحت راية الوطن ؟ ولسنا هنا كذلك في مقام المدافع عن موقف الجيش التونسي إبان الازمة, لأن الاخبار والمشاهد التي تصلنا من سوريا تثبت لنا مقدار وطنية المؤسسة العسكرية التونسية وانحيازها الى الشعب الثائر وانقاذها لكيان الدولة. وإنما نبحث نحن عن الحقيقة الغائبة والغامضة ونروم كشف المستور عن أحداث ملغزة ثبت فيها ان قوات الجيش قد تصدت فعليا لمجموعات مسلحة رفضت الخضوع للسيطرة الميدانية للعسكر.
عملية السيارة "كيا" :
ويسرد الضابط العسكري "ع م" الذي كان أعلى رتبة ميدانية ومرفوقا بتشكيلة من العسكريين اثناء حالة طورائ في أقصى درجاتها, وفي ظل فوضى عارمة عمت البلاد خاصة بجهة الكرم الغربي باعتباره الحي الشعبي الاقرب إلى قصر الرئاسة والذي انتفض في الايام الاخيرة لحكم "بن علي" وهاجم سكانه قصور ومنازل العائلة الحاكمة.
فيذكر التقرير ان سيارات مكتراة خاصة من نوع "رينو سمبول" ومن نوع "كيا" قد قامت بمهاجمة المواطنين باستعمال السلاح واطلاق النار بغرض نشر الفوضى وترويع السكان الامنين وممارسة النهب والسلب .
ولعل لجنة تقصي الحقائق قد اثبتت ان قناة فضائية تونسية قد نشرت اخبارا زائفة او بالغت في توصيف الوقائع ونشر بلاغات استغاثة كاذبة وبثت الرعب في نفوس المواطنين وكانت سببا مباشرا في وقوع ضحايا بشرية مما جعل مهمة تطبيق حالة الطوارئ وحظر الجولان عسيرة على العسكريين .
ففي يوم السبت 15 جانفي رصدت التشكيلة العسكرية التي يشرف عليها الضابط العسكري ع . م على الساعة 11:30 صباحا :"سيارة من نوع "كيا" بيضاء اللون على متنها شخصان يطلقان النار على المواطنين العزل". وقد أصابوا امرأة من الحي المذكور مما اضطر العسكريين الى محاولة التصدي للسيارة المهاجمة فأصابوها غير أن المسلحين نجحوا في الفرار من داخلها صوب الازقة والأنهج المتفرعة بعد أن ارتطمت السيارة المشبوهة بجدار أحد المنازل وبرر قائد التشكيلة فرار القناصة باعتبار أن المشتبه بهم قد اختلطوا بالمواطنين وكانت الخشية قائمة من إصابة الناس من حولهم.
من يكون هؤلاء المسلحين الذين يجوبون الاحياء القريبة من القصر الرئاسي ويخرقون قانون الطوارئ ؟ هل كانوا في وضعية انسحاب وفرار؟ أم كانوا ينفذون مخططا لزعزعة الأمن الداخلي؟ أم هم مجرد خارجين عن القانون متمردين على كيان الدولة ؟ أم لهم صلة حقيقية مع المجموعة المرابطة بقصر المعارض وربما قدموا لإسنادها؟
لعل الذاكرة الجماعية لا تنسى أبدا تلك السيارات التي جابت شوارع العاصمة ليلة 13 جانفي وهي تحتفل بخطاب السيد الرئيس وتطلق صفاراتها مساندة للحاكم القائم بالأمر . ثم إن التحقيقات القضائية لم تسمع أقوال مالكي تلك السيارات من شركات كراء السيارات أو المؤسسات التي سخرت سياراتها لنصرة حزب التجمع ومحاولة انقاذ الرئيس السابق. هل توجد صلة قائمة بينها وبين السيارات المسلحة التي روعت المواطنين واشتبكت مع القوات العسكرية في ما بعد؟
عملية السيارة رينو سمبول:
يذكر الضابط العسكري في تقريره أنه تلقى طلبات استغاثة صادرة عن مواطنين تؤكد وجود سيارة من نوع "رينو سمبول" يركبها مجموعة من المسلحين أطلقت النار بالكرم الغربي في اتجاه لجان حماية الاحياء الذين طاردوها فلاذت بالفرار. وأنه على الساعة 15و30 نجحت القوات العسكرية في محاصرة السيارة المشبوهة بين نقطتي تفتيش في مفترقي قصر المعارض وبنك الزيتونة.
ويذكر شهود عيان ان السيارة المشبوهة رفضت التوقف في نقطة التفتيش العسكرية في الوقت الذي طاردها بعض افراد لجان حماية الاحياء وانطلقت السيارة بسرعة في الاتجاه المعاكس للطريق وتوقفت ونزل ركابها وشرعوا بالركض في حركة غامضة ثم عاد بعضهم الى السيارة مطلقين بعض الاعيرة النارية. وأن القيادة العسكرية قد اضطرت إلى توجيه عناصر من القوات الخاصة قصد تدمير الهدف باعتبار ان نقاط التفتيش القارة لا يمكنها مغادرة مواقعها والقيام بعملية المطاردة. ويذكر القائد الميداني ما يلي :" إثر رفض ركاب السيارة المذكورة تسليم أنفسهم ورميهم على عناصر القوات الخاصة تم تبادل الطلق الناري ." وانتهت العملية بمقتل ثلاثة مشتبه فيهم والقبض على ثلاثة اشخاص اخرين تبين لاحقا أنهم خليط من الامنيين والمدنيين .
ما المصلحة التي جمعت بين هؤلاء الاشخاص ؟ لماذا فرت السيارة "رينو سمبول" من لجان الاحياء ؟ ثم لماذا خرقت حواجز التفتيش العسكرية رافضة التوقف لإشارات العسكريين ؟ هل يوجد رابط بين هذه السيارة وتلك العناصر المسلحة المرابطة بقصر المعارض؟
وفي الاثناء داهمت سيارة أخرى رباعية الدفع حاجز التفتيش العسكري خارقة إشارات التوقف مما أجبر العسكريين على توجيه النار أليها تطبيقا لقانون الطوارئ وتم إجبارها على التوقف بعد إصابة السائق ونفر اخر.
والغريب في المسالة أن كل الموقوفين آنذاك قد سلموا مباشرة إلى إدارة أمن الدولة قبل أن يقع حله. والاغرب من ذلك أنه قد أطلق سراح كل الموقوفين لأنهم أبرياء وأن الدوريات العسكرية التي أوقفتهم خلال تفعيل قانون الطوارئ قد أخطأت في حقهم : من أطلق النار اذا على المواطنين وعلى العسكريين؟
ان مثل هذه المعطيات والوقائع تؤكد يقينا بان سقوط النظام قد رافقته اعمال سلب ونهب وفوضى عارمة وان معرفة الصديق من العدو بالنسبة الى العسكريين والامنيين كان عسيرا ثم ان قطاعا واسعا من المواطنين كان يجهل معنى انتشار القوات المسلحة خارج الثكنات ودلالة تطبيق قانون الطوارئ باعتباره قانونا استثنائيا يقصد به حماية كيان الدولة. وقد نحتاج الى معاودة النظر في احداث 14 جانفي وما سبقها وما تلاها لإعادة كتابة الحقيقة .
Aucun commentaire